من وجوه التجديد في الدّين

 

الدكتور الريسوني

 

 

أ.د.أحمد الريسوني

من وجوه التجديد في الدين

لتجديد الدين والتدين وجوه وحالات متعددة متنوعة…

منها ما يمكن تسميته بـ“عملية التحيين والملاءمة”.

ومنشأ الحاجة إلى هذا النوع من التجديد هوما تعرفه الحياة البشرية والمجتمعات البشرية، من تطورات وتغيرات مستمرة؛ في وسائلها ونُظُم عيشها وثقافتها ومصطلحاتها وأعرافها ومظاهرها ومشاكلها وحاجاتها…

لا شك أن ثوابت الحياة البشرية كثيرة وعميقة، ولكن المتغيرات فيها أوسع مدى وأكثر عددا. وهذا يضع أمامنا دوما ما يسمى بالمستجدات، أو النوازل، حسب الاصطلاح الفقهي. هذه المستجدات والنوازل تحتاج إلى مواكبة واستيعاب، لبيان أحكامها ومتطلباتها، ووضع حلولها، ومعالجة آثارها. فهذا نوع من التجديد قد يؤدي التقصير فيه أو التأخر فيه إلى أن يصبح الدين متجاوَزا فيما جد ونزل، وقد يبدو عقيما عاجزا، وما هو إلا عجز الأبناء وجمود العلماء، كما قال حافظ إبراهيم رحمه الله، على لسان اللغة العربية:

رمَوني بعقم في الشباب وليتني .….….. عقمت فلم أجزع لقول عُداتي…

أنا البحر في أحشائه الدر كامن .….….. فهل سألوا الغواص عن صَدَفاتي؟

وقد يبدو للبعض أن هذا النوع من التجديد ليس سوى الاجتهاد بمعناه الفقهي الأصولي. وأقول: نعم إن الاجتهاد الفقهي الأصولي يدخل هنا، فهو نوع من التجديد الديني. ولكن ما أعنيه أوسع من الاجتهاد الفقهي في النوازل الجديدة. فهو يشمله ويشمل غيره.

فمن ذلك مثلا: تجديد الخطاب الدعوي بحسب ما يناسب عقلية كل عصر ولغتَه وثقافته ومشاكله ووسائله. فهذا ضرب من “تجديد الملاءمة والتحيين”، ولكنه ليس من قبيل الاجتهاد الفقهي.

وهناك كذلك الشبهاتُ والطعون الموجهة إلى الإسلام، فهذه الشبهات والطعون قد تتغير من عصر لآخر؛ في قضاياها ومضامينها، أو في حُججها ومستنداتها، أو في مجالاتها أو مصطلحاتها. ولذلك تحتاج في كل عصر إلى نظر جديد وإنتاج فكري جديد، يناسب جديدها، ويفند مزاعمها، ويبطل سحرها وأثرها.

وهناك القضايا العامة للمجتمع والدولة، السياسية والفكرية والاجتماعية؛ كأنظمة الحكم، والحرب والسلام، وقضايا التربية والتعليم، وقضايا الأسرة، وقضايا الاقتصاد والتنمية…

فهذه كلها تحتاج إلى اجتهاد وتجديد ومعالجات جديدة. أما المعالجات القديمة فقد أصبحت في مجملها متجاوزة.

التجديد العلمي أولا

أخص التجديد العلمي بهذه الفقرة، لكونه هو المحرك والمنطلق، وهو البوصلة والنبراس، لأي تجديد آخر. قال الإمام البخاري رحمه الله في “كتاب العلم” من صحيحه: “باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى{فاعلم أنه لا إله إلا الله}، فبدأ بالعلم، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم، مَن أخذه أخذ بحظ وافر…”.

فلا بد لكل تجديد — لكي ينطلق سليما ويمضي رشيدا — من التسلح بالعلم. والعلم له ضُبَّاطٌ وجنود. فضباطه هم العلماء المجتهدون فيه، وجنوده همالطلاب والدارسونالسائرون في طريقه.

وقد أصبح التجديد في مجال العلوم الشرعية محل اهتمام وجهود متعددة متواصلة في هذا العصر. فمِنْ فتحِ باب الاجتهاد والتجديد الفقهي، إلى تجديد علم أصول الفقه، إلى ظهور “علم الكلام الجديد” في مجال العقيدة والفكر الإسلامي، إلى التجديد في مناهج التفسير والدراسات القرآنية، إلى نهضة مباركة في مجال القواعد الفقهية والأصولية ومقاصد الشريعة…

ومقامنا هذا لا يتسع للحديث التفصيلي عن التجديد في العلوم الإسلامية، ولذلك أقتصر على بعض العناصر العامة المشتركة، التي أراها ضرورية لتوسيع دائرة التجديد العلمي والسير به إلى غايته.

العنصر الأول، هو الحاجة إلى تحرير علماء الشرع — أو أكثر ما يمكن منهم — من التبعية لغيرهم، وخاصة التبعية للحكام والأمراء والولاة والوزراء. فما تضررَ العلمُ والعلماء بشيء بقدر الضرر الناشئ عن هذه التبعية. وأعني بالتبعية هنا التبعية العلمية؛ بحيث يصبح قولُ العالم — أو موقفه — يُكَيَّفُ ويُلَوَّنُ ويُـحَجَّم بما يوافق الحاكمَ ويسايره ويخدم سياسته، وبما يرضيه ولا يُسخطه، ولو بالسكوت حيث يجب الكلام. وبما أن الحكام وولاتهم ووزراءهم، قد تجد فيهم جُهالا بالدين، أو طغاة ظالمين، أو فَسَقَة ماجنين، وقد تجد منهم حتى لادينيين، وخاصة في هذا العصر… فخضوع العالـِم بالقول لهؤلاء وغيرهم، يجعل العلم الشرعي خادما مذللا لأغراضهم وأهوائهم وجهالاتهم.

العنصر الثاني، من عناصر التجديد المطلوب في هذا المجال هو ربطُ العلوم الشرعية بعصرنا ومشاكل زماننا ووقائع يومنا. فعُلوم الدين ليست — وما ينبغي أن تكون — متحفا تراثيا أو مستودعا تاريخيا، وإنما هي علوم عملية واقعية، تربط الدين وقيمَه وأحكامه بالواقع، وتربط الواقع ومشاكلَه وحاجاته بالشرع.

للأسف أكثر علمائنا وطلابنا في العلوم الشرعية، يؤثرون الفرار من واقعهم المحيط بهم، والهجرة إلى تاريخهم وتراثهم. فإذا طُلب من أحدهم — مثلا – أن يتحدث في موضوع “المرأة وقضاياها وأوضاعها اليوم”، عاد بك فورا إلى أُمِّنا حواء، وآسية امرأةِ فرعون، وبلقيس ملكة سبأ، وحدثك عن الصحابيات الجليلات، من خديجة إلى سمية إلى عائشة. وربما عرج بنا على أوضاع المرأة عند اليهود واليونان والرومان، ثم ختمبأقوال الفقهاء والمفسرين، من الطبري إلى القرطبي، ثم يختم درسه أو فتواه بالدعاء الصالح…

– العنصر الثالث من هذه العناصر العامة المتعلقة بالتجديد في المجال العلمي، هو ضرورة العمل على تحريك التطبيق في الجوانب المعطلة أو المتعثرة من الشريعة.فكما أن التطبيق الجديد يتوقف على الاجتهاد والتجديد، فإن استمرار التجديد وتقدمه ونجاحه، يحتاج أيضا إلى التطبيق ويتوقف عليه. ذلك أن الإشكالات والأعطاب والمتطلبات، لا يمكن فهمها حق الفهم، ولا يمكن وضع الحلول المناسبة الناجعة لها، إلا بالتطبيق ومعاينته ومعايشته. فمن لا يمارس الدعوة مثلا، ولا يعاين مشكلاتها الفعلية ومتطلباتها التجديدية، لا يمكن أن ننتظر منه التجديد في هذا المجال.

ولعل أوضح دليل ومثال على أهمية التطبيق في خدمة التجديد وإغنائه، هو تجربة المصارف الإسلامية المعاصرة. فقد أدت هذه التجربة وهذا التطبيق إلى ثورة وثروة من الاجتهادات والفتاوى الفقهية التجديدية في هذا المجال.

وهذا حاصل أيضا — ولو بدرجة أقل — في باب الوقف، ثم في باب الزكاة. وذلك بفضل التجارب التطبيقية المعاصرة في هذين البابين. فكل ذلك قد فتح للتجديد والاجتهاد أبوابا رحبة، لم تكن ممكنة بدون الحركة التطبيقية.

من كتاب “التجديد والتجويد”

المصدر :

www.raissouni.ma

مقالات ذات صله