شخصية الفقه المالكي – الجزء 1

الدكتور مصطفى بن حمزة

تشهد الحياة الدينية المغربية في فترتها الراهنة تحولات عميقة تستدعي تمثلا جيدا وتحليلا موضوعيا لحقيقة ما يجري بغية استثمار الإيجابيات ودرء واستبعاد السلبيات التي يمكن أن تصل بالمجتمع إلى تركيز ثقافة الخلاف والصراع الناشئ على اختلاف المنطلقات الاجتهادية والفقهية، مع ما يصحب هذا النوع من الخلاف من تعصب يعوق توحد الأمة وائتلافها على مشاريع الخير وتعاونها على مواجهة عدوها المتمثل في المخططات المتطلعة إلى اجتثاث ومحق كل فضيلة متبقية في الأمة.

إن حياتنا الدينية بالمغرب تعيش حالة رجوع جماعي إلى قيم الإسلام مدفوعة برغبة عارمة في إحياء الإسلام في نفوس الناس، وفي واقعهم المعيش، ومن تجليات تلك العودة أن الحياة أصبحت تصطبغ بالكثير من مظاهر الإسلام على مستوى المؤسسات التعليمية في الثانوية وفي الجامعة، وعلى مستوى تعاملات الناس وممارستهم للشعائر الإسلامية، وإقبالهم على المساجد، وعلى أداء مناسك الحج والعمرة، واهتمامهم بالأعياد الإسلامية، ومتابعتهم للبرامج الإسلامية في الفضائيات العربية، وتناسل الجمعيات والمنظمات الإسلامية، ورواج الكتب والصحف الإسلامية، وغير ذلك من المظاهر التي تنبئ عن تجذر الإسلام في وجدان هذه الأمة المغربية.

إلا أن مكمن الخلل في هذه الحياة الدينية، أنها لم تكن قد استعدت استعدادا حقيقيا لتأطير هذه الرجعة تأطيرا علميا شرعيا، يعصم الأمة من أسباب الزلل أو الارتماء خارج حافتي مجال الاعتدال في الرأي والقبول بالخلاف الإيجابي، وقد كان غياب هذا التأطير نتيجة حتمية من نتائج وأد المؤسسات التعليمية الإسلامية، أو تعويقها عن تكوين علماء متمكنين قادرين على إبراز أحكام الإسلام وتنزيلها على الوقائع وتقديمها للناس في صورة لا تختلف عن الصورة الإقناعية والمنطقية التي تقدم بها كل المعارف في جميع المؤسسات والمنتديات.

إن حياتنا الدينية غير المؤطرة علميا تشكو حاليا من فوضى في التوجيه الفقهي هي ناشئة عن شغور كبير في موقع التوجيه والإفتاء، وهو ما أغرى كثيرا من غير المؤهلين بسد الفراغ أول الأمر، ثم جرأهم ذلك على إصدار فتاوى ليست في معظمها الأرجع صدى لفتاوى أخرى قد تستند إلى دليل أحادي معزول غير مقابل بغيره ولا خاضع لخطوات ومراحل الترجيح بين الأدلة، وبهذا أصبحت الكثير من المساجد ساحات لهدم المؤصل القائم على متين العلم، واستنبات كثير من الأحكام التي لا تثبت طويلا أمام البحث والتمحيص والمعارضة، وقد كان بالإمكان اعتبار هذا كله لونا من البحث عن الحق، لولا أن الأمر تجاوز هذا إلى الإخلال بالوحدة الفكرية والاجتماعية، لأمة ظلت عبر تاريخها الطويل منسجمة متآزرة.

حينما نريد تحديد أسباب الارتباك الفقهي في حياتنا الدينية،فإن بالإمكان أن نرده إلى سيادة مفهومين هما:
أولا: اعتقاد خطإ التمذهب بمذهب فقهي .
ثانيا: اعتقاد وجود تباين بين مقررات وأحكام الفقه المالكي والسنة النبوية، التي لها بلا امتراء حق الطاعة دون غيرها من أقوال البشر.
وأعتقد أن هذين المفهومين يحتاجان إلى أن يكونا موضوع حوارات علمية جادة ومكثفة ولا سبيل إلى تجاوز الأزمة الحالية إلا بالإجابة عن هذين الطرحين، خصوصا وأن الكثير من الجهود تبذل في دعمهما وتركيزهما، مقابل غياب شبه مطلق، لأي  دعم للاتجاه المقابل وهو ما أخل بالتوازن العلمي الذي به تتبين الحقائق.
وبما أن هذه المساهمة لا تتناول موضوع الأخذ بمذهب من المذاهب  الفقهية، فإني أترك الحديث عن ذلك، وأكتفي بالإحالة على ما هو مثبت ومستفيض في كتب أصول الفقه من أحكام الاجتهاد والتقليد، وأحصر الكلام هنا في أهمية وجود المذهب المالكي في الحياة المغربية باعتباره مذهبا سنيا يقوم على إدراك سليم لمضامين النصوص الشرعية، وعلى استثمار مؤصل لأحكامها، وعلى اعتباره مذهبا حقق وحدة الأمة وفرغها للنهوض بواجباتها الحضارية.

المذهب المالكي في عمق الحياة المغربية.
لقد اختار المغاربة المذهب المالكي عن علم ودراية بمزاياه، بعد أن أعياهم التفرق بين كثير من المذاهب الفقهية والعقدية، فقد عرفوا المذهب الحنفي وتمذهبوا به وأخذت إمارة بني مدرار بسجلماسة بالمذهب الخارجي وعرفت المذهب العقدي  الاعتزالي جهات عديدة من المغرب، وقد عانى المغرب انقسامات وحروبا لمدة ثلاثة قرون، بسب هيمنة المذهب الخارجي 1. الذي كان من شأنه التوجه إلى الغير، بدعوى الكفر طردا لأصلهم في تكفير فاعل الكبيرة.
وقد ظل المغرب يرقب عن كثب ما حققه وجود المذهب المالكي في إفريقيا، بعد أن أدخله إليها رجال، منها ممن صحبوا مالكا، وهم علي بن زياد2. وعبد الرحمن بن أشرس3 . والبهلول بن راشد4 . وعبد الله بن غانم القيرواني 5 . وكما عرف المغاربة ما حققه المذهب المالكي من حضور قوي بالأندلس، بعد أن عاد إليها زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون6. حاملا فقه مالك وعاد إليها الغازي بن قيس الذي شهد مالكا وهو يؤلف الموطأ7 .وسعيد بن أبي هند8.
وقد نشر مذهب مالك بالمغرب رجال منهم:أبو هارون عمران بن عبد الله العمري9.وأحمد بن حذافة العمري10 .وبشار بن بركانة11.

وقد كان دراس بن إسماعيل (ت. 12357 ) أبرز من أدخل مذهب مالك إلى المغرب (357 )
وقد عده بعض المؤرخين مدخل المذهب إلى المغرب، لشهرته ومكانته العلمية، وإلا فإن المذهب قد عرف بالمغرب لما وفد نحو 500         من الفرسان من أهل الأندلس على إدريس الثاني، ومنهم علماء مالكيون، أمثال عامر بن محمد القيسي، الذي استقضاه إدريس الثاني، وكان قد سمع من مالك ومنهم أبو الحسن عبد الله بن مالك الأنصاري، الذي تولى عقد شراء الأرض التي بنيت عليها مدينة فاس13 .

لقد اختار المغاربة المذهب المالكي عن وعي وتبصر وإدراك حقيقي لمزاياه، وهم الذين عرفوا غيره من المذاهب كالحنفية، ومذاهب أخرى عقدية، كالخارجية والشيعية، وقد عانى المغرب من الاتجاه الخارجي، النزاع بطبعه إلى التشدد القائم على تكفيرهم لمقترف الكبيرة الشيء الكثير.

صفحات: 1 2 3 4

مقالات ذات صله