شخصية الفقه المالكي – الجزء 2

الدكتور مصطفى بنحمزة

قد يكون غريبا بل ومزعجا أيضا أن يطرح التساؤل عن صلة الفقه المالكي بالكتاب والسنة وعن انبنائه عليهما لدى جميع الذين خبروا هذا الفقه أصولا واستدلالا ومسائل.
لكن ما لا يمكن التغاضي عنه أو إهماله هو أن الواقع يشهد تكرر وتنامى دعوة عارمة إلى نبذ الكثير من مقررات الفقه المالكي على الخصوص، على اعتبار أنه لا يمثل إلا آراء الفقهاء واجتهاداتهم التي قد تجافي السنة وتنأى عنها في كثير من الأحيان، وقد أصبح الخلاف حول بعض الممارسات في المساجد شأنا يوميا كثيرا ما ينتهي بخصومات حادة، إني أرى أن القول بانفصال الفقه الإسلامي عن الكتاب والسنة ليس إلا صيغة جديدة لدعوى أطلقها  المستشرق المجرى أجناس جولدزيهر 1921 والمستشرق الألماني شاخت 1969 الذي ألقى في الأكاديمية الإيطالية سنة 1956 بحثا زعم فيه أن المذاهب الفقهية قد تشكلت من أقوال كثيرة للفقهاء حاولت أن تكمل القصور الواقع في الكتاب والسنة، بعد أن جدت حوادث لا يستوعبها هذان المصدران1.
ولا أرى أن هناك فرقا بين قول جولدزيهر وشاخت، وقول من يزعم أن أحكام المذهب المالكي أو غيره إنما هي آراء شخصية لا صلة لها بالكتاب والسنة.
لهذا وجب تحقيق القول في صلة المذهب المالكي بالكتاب والسنة لا دفاعا عن المذهب المالكي وحده، وإنما دفاعا عن الفقه الإسلامي الذي يعتبر بناء متكاملا، هو قمة ما يمكن أن يبذل من جهد من أجل وصل الواقع المعيش بالشريعة عن طريق الاستنباط من النصوص، وعن طريق إعمال الأصول والأسس التي قام عليها الفقه حفاظا على العلاقة العضوية القائمة بين تلك الأصول وبين الشريعة نصا وروحا.
ولعل الإلحاح على تأكيد انفصال الفقه عن الكتاب والسنة ليس إلا محاولة لتفريغ الساحة الفكرية منه ليخلو المجال لمن أراد أن تكون الحياة غير منضبطة بأحكام الشرع ليوجهها فكر وضعي في الاتجاهات التي يشاء لذا صح أن نعتبر محاولة إقصاء الفقه وتغيبه تمهيدا للاستفراد بالحياة وللتمكين للعلمانية المتربصة.
ومن أجل تجلية متانة الصلة بين المذهب المالكي والكتاب والسنة، فإنه لا بد من استعراض القضايا التالية:
1. شخصية مالك الحريصة على الالتزام بالكتاب والسنة.
2. اندراج فقه مالك ضمن اتجاه فقهي أشمل هو فقه أهل المدينة.
3. توفر المذهب المالكي على أصول استنباطية تبعية تساعد في إيجاد الأحكام الشرعية.

1.     شخصية مالك الحريصة على الالتزام بالكتاب والسنة
لا شك أن التركيز على الصفات والمزايا الخلقية لشخص من الأشخاص يفيد كثيرا في معرفة إمكان التزامه أو تفريطه في المبادئ والقيم التي يجري الحديث عن علاقة بها، وحينما يتعلق الأمر بشخص الإمام مالك فإنه يعرف عنه أنه كان شديد المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وافر الأدب معه، كثير الاعتناء بحديثه، قوي التمسك بمضامينه.
فأما عن توقيره لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرى حرمته ميتا كحرمته حيا، فلذلك أخذ مالك على أبي جعفر المنصور وهو يناظره، رفع صوته في المسجد النبوي، وقال له: يا أمير المومنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب أقواما فقال: ( لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيء) الحجرات 2. ومدح أقواما فقال: ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)الحجرات3. وذم قوما فقال: ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات )الحجرات4
وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان إليها أبو جعفر، وقال يا أبا عبد الله: استقبل القبلة وادعوا أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به، قال الله تعالى: ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم )النساء 64 2.
وقد بلغ من أدب مالك مع شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يركب دابة في المدينة المنورة توقيرا لجسده الشريف3.
وقد كان من عادته إذا صلى بمحراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ينفتل بعد الصلاة عن يمينه حتى لا يولي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره، وإنما كان ينقلب عن يساره، أما عن تأدبه مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته في روايته، فله شواهد عديدة منها، أنه قال: أدركت سبعين تابعيا في هذا المسجد ما أخذت العلم إلا عن الثقات المأمونين4.
وكان يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا وكان أحدهم لو أؤتمن على بيت مال لكان أمينا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن5. ومن ذلك أنه مر على ابن أبي حازم وهو يحدث فجازه، فسئل عن ذلك فقال: لم أجد موضعا، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم6.
ويأتي في قمة توقيره لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشدده في قبول المروي منها إلا ما ثبت لديه أنه صحيح بلا امتراء وقد ذكر عنه أنه أدرك عائشة ابنة طلحة بن عبيد الله وهي تابعية ولو أنه أخذ عنها لكان بينه وبين عائشة أم المومنين راو واحد، لكن ذلك لم يغره بالرواية عنها فلما سئل عن ذلك قال رأيت فيها ضعفا7.
ولقد كان مالك قد وضع الموطأ من عشرة آلاف حديث اصطفاها من مائة ألف حديث كان قد جمعها وما زال يخبـر أحاديث الموطأ ويعرضها على الآثار حتى رجعت إلى خمسمائة حديث وهو احتياط لم يتفق لأحد مثله8.
ولقد كان مالك حريصا أشد ما يكون الحرص على التزام الوارد من الكتب والسنة، ومن ذلك أنه قد سئل عن الرجل يدعو فيقول خطابا لله تعالى: ياسيدي، فقال: يعجبني أن يدعو بدعاء الأنبياء ربنا ربنا9.
وعلى الإجمال، فالأخبار الدالة على توقير مالك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى تمسكه بسنته كثيرة، تجعل تصور مخالفته للسنة أمرا مستبعدا ذهنيا على نحو ما هو مستبعد واقعيا.
إذا قيل إن الانحراف عن السنة إنما تم من قبل الفقهاء المالكية لا من مالك نفسه فإن هذا أيضا لا يثبت لأن المالكية ليسوا رجلا واحدا أو رجالا معدودين وإنما هم أفواج متلاحقة من العلماء الأثبات الذين يستحيل أن يتواطؤوا على خلاف السنة تماما كما لا يمكن أن يتفق الأفراد المكونون للتواتر على الكذب عقلا.

صفحات: 1 2 3 4

مقالات ذات صله